((الصراع بين الحق والباطل مستمر الي,أن يرث الله الأرض ومن عليها ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الصراع بين الحق والباطل
كتبه/ خالد آل رحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
إن الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام وإلى الآن،
وسيستمر إلى قيام الساعة،
فهما يتصاولان ويتجاولان والحرب بينهما سجال فهو صراع لا مفر منه،
وحقيقة واقعة ليس لأحد فيها اختيار؛
فالباطل لا يُطيق مجرد رؤية الحق فضلًا عن أن يعيش معه بسلام،
واللافت للنظر أن الباطل لا يرتفع ولا تُرفع راياته إلا عندما يختفي الحق ويُحبط أصحابه،
وإن كانت العقبى للحق والعاقبة للمتقين،
وهذه نظرية قرآنية ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
و(قُلْ جَاءَ)
و(زَهُوقًا
يقول السعدي رحمه الله:
"والباطل قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك،
ولهذا لا يروج للباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته". اهـ.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله:
"الآنفة من متابعة الحق وسيلة إلى تركه، والآنفة من الحق قبيحة، كما أن الآنفة من الباطل حسنة". اهـ.
وعندما يظهر الحق يعمل الباطل بكل قوته للقضاء عليه،
ويستخدم كل أدواته المشروعة وغير المشروعة في النَّيل منه،
ومِن صور هذا الصراع صورة عظيمة فيها من الفوائد والدروس الكثيرة؛
وهي صورة لما واجههه النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثته، وهو الذي بُعث بالحق ومجابهة قريش التي تمثل الباطل آنذاك،
وكيفية التآمر عليه ثم هجرته وتتبع قريش له وإنفاق الأموال للقضاء على الحق المتمثل فيه صلى الله عليه وسلم.
فقد بُعث النبي بدعوة الحق، ودعا الناس إلى عبادة الله تعالى، وهو الحق الذي لا مراء فيه؛
قال تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
فواجهته قريش بالتكذيب والطعن،
فوصفوه بالكذب والسحر والجنون
وعندما فشلت قريش في المواجهة الفكرية تحولت إلى استخدام المغريات الدنيوية
فاتجهوا إلى الترغيب بعرض الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق عمه حين استدعاه قائلًا له:
"يا بن أخي؛ إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق"،
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عم؛ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه"،
ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى .. ثم قام. فلما ولي ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي،
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت؛ فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
وفي رواية الطبراني
أنه صلى الله عليه وسلم لما كلمه عمه في قريش: حلق ببصره إلى السماء وقال:
أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم.
قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة. (صححه الألباني).
قال د. عبد الرحمن العشماوي
عرضوا عليك المال ضل رشيدهم *** لم يدر أن الصيد في جوف الفرا
عرضوا عليك الملك لم تنظر إلى *** ملك يظل أمام دينك أصغــــرا
لو أن شمسًا في يمنـــك أشمست *** أو أن بـــدرًا في شمـــالك أقمرا
لمضيت في درب الرســـالة حـــاملًا *** نور النبـــوة منـــذرًا ومبشـــرًا
فلما علمت قريش أن أسلوب الإغراء لا يُجدي
اتخذوا نهجًا أشد قوة، وهو العنف العنف اللفظي بالسب والشتم للنبي وأصحابه،
ثم تطور الأمر بالعنف الجسدي
ومنهم مَن قُتل كياسر وسمية رضي الله عنهما، ولما فشلوا في إثناء النبي وأصحابه على ترك هذا الدين الحق،
وما فعلوا ذلك إلا كراهة للحق،
ولذلك قال تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
ولما فشلوا في ذلك اتجهوا إلى التآمر والكيد
فاجتمعوا في دار الندوة برئاسة كبيرهم أبو جهل وكبير الباطل على وجه الأرض إبليس -لعنه الله- الذي تمثل بصورة أعرابي، فتناقشوا وتجادلوا وتجاذبوا حتى وصلوا لقرار خطير؛ حيث تم الاتفاق على أن تجتمع القبائل على قتله، فيتفرق دمه بينهم، فلا يستطيع بنو هاشم الأخذ بثأره فيقبلون الدية،
ولكنهم كما يكون الباطل في كل زمان ومكان، نسوا أن الله مُطَّلع عليهم، وأنه لن يكون في ملكه إلا ما أراد،
وحينها نقل تعالى هذا المشهد للنبي صلى الله عليه وسلم
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
ثم أمره بالخروج والهجرة إلى المدينة، فاجتمعوا عند داره، فخرج عليهم بعد أن أمر علي رضي الله عنه بالنوم مكانه لرد الأمانات إلى أهلها، ثم خرج من بينهم وهو يضع التراب على رءوسهم، وهو يتلو قوله تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
وفي الصباح أدركوا خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فتعقبوا آثاره حتى وصلوا إلى الغار،
ووقفوا على بابه حتى أن أبا بكر الصديق خاف على النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما
(ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)،
وهذا دليل على أن الله تعالى لا يكون في ملكه إلا ما أراد،
وأن الباطل مهما صنع لن يستطيع القضاء على الحق؛ ل
أنه مهما علا الباطل وارتفع وصار مقدمًا، فلابد له أن يُزهق يومًا ما.
وعادت قريش مرة أخرى بخفي حنين،
ثم استخدمت آخر أوراقها، وهو المال،
فوضعت جائزة مائة من الإبل لمن يأتي بالنبي حيًّا أو ميتًا، فوصل سراقة بن مالك إلى النبي وصاحبه،
ومع ذلك لم يستطِع القبض عليهما، بل أسلم.
وأخذ الجائزة سواري كسري كما أخبره النبي بذلك، وتحقق هذا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأعوام.
قال ابن تيمية:
"إن من سنن الله عز وجل إذا أراد إظهار دينه وإعلاء كلمته أن يقيم له من يعارضه من المجرمين،
فيُحق الحق بكلماته ويقذف بها على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".
إلى هنا نقف عند هذه الصورة من الصراع بين الحق والباطل،
لنرى كيف يواجه الباطل الحق، وكيف يستخدم كل أسلحته للقضاء عليه ويفشل في ذلك؛
لأن الحق المتمثل في النبي صلى الله عليه وسلم متمسك بالحق الذي معه،
وعندما يتمسك أهل الحق بالحق يعجز الباطل أن يقضي عليه،
ولنتأمل أساليب الباطل في مواجهة الحق،
ستجد أنها نفس الأساليب التي تُستخدم في كل زمان ومكان، فقد استخدم:
أولًا: الحوار وعرض الحجج الباطلة وغير المقنعة.
ثانيًا: التشوية والطعن والغمز واللمز.
ثالثًا: الترغيب وعرض الأموال والمناصب والجاه.
رابعًا: الترهيب والاعتداء اللفظي بكل أنواعه.
خامسًا: الاعتداء البدني والتعذيب بكل أشكاله.
سادسًا: اجتماع كل أهل الباطل كأنهم رجل واحد؛ لأن عدوهم واحد وهو الحق.
سابعًا: قتل الحق في صورة كل من يدعو إليه.
ثامنًا: استخدام الأموال وإنفاقها في سبيل القضاء على الحق.
ومع ذلك فشل أهل الباطل في القضاء على الحق؛
لأن الله تعالى القائل: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
ووعده حق بشرط أن يتمسك أهل الحق بالحق،
فمهما علا الباطل، فهو أبين لسقوطة وانحداره،
وهذه سنة الله تعالى في خلقه، فالباطل زاهق لا محالة،
والحق منتصر بموعود الله جل وعلا.
والله من وراء القصد.