(
العلاقة مع الله
)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضى، والشكر له على ما أولى من نعم وأسدى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندخرها عنده، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى إلي يوم الدين ،
إن جل الناس يحرصون على إقامة الروابط والعلاقات ويسعون لتكثير المعارف وتوطيد الصداقات، وكم ألفت في طرائق التعامل مع الناس من كتب، وأقيمت من دورات، حتى غدا كسب الأصدقاء ومهارات التعامل فناً يدرس ومهارة تطلب.
وجميل أن نهتم بهذا، بل هي فطرة الإنسان إذ هو مدني بطبعه كما قيل، لابد له من معارف وعلاقات، ويألف ويؤلف.
ولكن أهم من كل ذلك أن نعتني بالعلاقة الأصل، ونعمر الطريق الذي لا بد لنا منه، وفيه سعادتنا وفوزنا وفلاحنا، بل ولن تصلح علاقتنا مع الخلق حتى نصلحها مع الأصل.
كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة أم المؤمنين أن اكتبي إلي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري علي فكتبت رضي الله عنها: إلى معاوية: سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) والحديث في سنن الترمذي.
راء من الناس من إذا ذكر أثني عليه، وإذا حضر أقبل عليه، تحبه القلوب وتمدحه الألسن ويثنى عليه الناس وهم ربما لم يجالسوه ولم يربحوا منه دنيا، ولو فتشت لوجدت علاقته بالله معمورة، وعكسه من تبغضه القلوب وتستوحش منه النفوس ولو تأملت لوجدت العلاقة مع الله والصلة به مشوبة، مصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أحب الله عبداً نادي جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا مقت الله عبداً نادي جبريل إني أكره فلاناً، فيبغضه جبريل، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له المقت في الأرض ) رواه البخاري.
ويأتي السؤال الذي لابد أن نجد له إجابة في واقعنا وأفعالنا قبل أقوالنا، كيف تصلح صلتنا بالله وتطيب العلاقة معه وكيف نعمر الطريق بيننا وبينه سبحانه، ولعمري فكم نحتاج للعلاقة معه سبحانه، فمن يستغني عن الله ؟ بل حاجتنا له في كل لحظة وكل حركة وكل سكون، ومن كان الله معه لم يستوحش ومن عرف الله حقاً كفاه عن كل ما سواه.
ألا وإن من أعظم ما تقرب به العبد لمولاه القيام بالفرائض فهي رأس المال وركن الدين وأساس الأعمال، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالي (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) لقد فرض الله الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكف الأذى وغيرها مما هو ثابت بالقرآن والسنة.
وتصلح العلاقة مع الله حين يكثر العبد من النوافل، فالمقتصدون يكتفون بالواجبات بينما يعمر السابقون أوقاتهم بشتى صور نوافل العبادة، وركعات وصلوات وصوم وصدقات وذكر وقرآن وتسبيحات، وإحسان إلى الغير وغيرها، وهم في ذلك يربحون رحمة الرحمن وأن يدخلوا في زمرة من أحبهم الإله المنان، ولا عجب فهم يسمعون في الحديث القدسي إن الله عز وجل، يقول: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه).
ولن تطيب العلاقة مع الله حتى يسعى المرء جهده في هجر الذنوب، فهي داء القلوب وجالبة الكروب وبها يحل سخط علام الغيوب، ولله كم يؤثر الذنب على البعد في علاقته بربه وقربه منه إن لم يتب إليه وقد قال وهيب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصى؟ فقال: ولا من هم، يعنى ولا من عصى ولا من هم بالمعصية، فرب شخص حرم قيام الليل وحلاوة المناجاة ولذة الطاعة أو بذل معروفا بسبب نظرة محرمة أو كلمة في سخط الله أو مطعم حرام.
إن إبليس طرد من الرحمة بذنب ارتكبه، وأخرج آدم من الجنة بذنب وقع فيه، فكيف يأمن المرء من ذنب يبارز به من لا تخفى عليه خافية؟ وقد قال بعض العارفين لولده هل لك من ذنوب؟ قال: كثيرة، قال: هب أن لك في اليوم ذنبا بالليل وذنباً بالنهار فكم تكون؟ فقال: سبعمائة وعشرين، فقال له: يا ولدى، إن آدم خرج من الجنة بذنب واحد، وأنت ترجو دخولها بسبعمائة وعشرين ذنباً في السنة.
ومن أعظم ما عمرت به العلاقة مع الله ـ أيها المصلون ـ إصلاح السرائر بإخلاص العمل لله، وإن العبد وهو يتعامل مع الله فإنما يتعامل مع الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم خائنة الأعين، ويعلم السر وأخفى، ومسكين ثم مسكين من نوى بأعماله ثناء الناس ومراءاتهم، فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقاري ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت ؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال إن فلاناً قارئ فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال إن فلاناً جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا قتلت ؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ). رواه مسلم في صحيحه:
فليكن همك – أخي المسلم – إصلاح سريرتك وإخلاص نيتك، فما تفاضلت الأعمال إلا بالنوايا، ومع الأيام يذهب الثناء والمدح والمادحون والممدوحون ولا يبقى من الأعمال إلا ما أريد به وجه الله، ولا يبقى إلا ذكر المخلصين.
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
إن المرء إذا صلحت علاقته مع الله صلحت أحواله وتيسرت أموره وأجيبت دعوته، وفي الحديث (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فيونس عليه السلام أجيب إذ دعاه وقال الله مبيناً سبب قبول تلك الدعوات ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144].
وإن من المفارقات العجيبة أن تكون علاقة الإنسان بالآخرين طيبة وسمعته حسنة وعلاقته بالله ضعيفة أو مقطوعة، عياذا بالله من الخذلان، ويخطئ من يتصل بالمخلوقين طالباً منهم نفعاً وينسى من بيده النفع كله.
إن إحسان العلاقة بالله موعظة يتناصح بها العارفون، كتب أحدهم لصاحبه (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مئونة دنياه).